Logo

ثرثرة الاقتباسات: من بيكاسو إلى ستاجيت راي حتى وِسْ أندرسون!

15/04/20

Warning: Undefined variable $sort in /home/wael/public_html/wp-content/themes/twentynineteen/template-parts/content/content-single.php on line 95
/100

.. هذه الضفيرة الممتدة من القرن العشرين ستصل إلى المخرج وِسْ أندرسون في القرن الواحد والعشرين في عربة "دارجيلينغ ليميتد"!

في البدء قال بيكاسو “الفنان الجيد يقلد، والفنان العظيم يسرق” ..

بعدها هدمت أسوار الفن أمام كل جائح!

اتضح لاحقا أن مضمون العبارة طاف بسماء الشعراء قبل بيكاسو ومن ضمنهم الشاعر ت. س. إليوت، صاحب “الأرض اليباب”. هل سرق بيكاسو مضمون العبارة؟ هل يهمنا ذلك؟! فليس نتتبع هنا مسقط رأس العبارة، وإنما مضمونها المغلف في نبرة الاستفزاز الساخرة؛ السمة الأبرز التي تختصر شخصية بيكاسو وأسلوبه في الحياة والفن! والأكيد أنه قالها من موقع قوة (على افتراض أنه صاحبها) فلا أحد يستطيع التشكيك في موهبته المتفردة، باستثناء “زملاء المجد” بطبيعة الحال .. ممن يصح فيهم قول أبو حيان التوحيدي:

“وأما الكتّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل”.

و”موقع القوة” هذا هو الذي دفع بيكاسو في العام 1955 إلى الوقوف أمام كاميرا المخرج الفرنسي هنري-جورج كلوزو في الوثائقي الفني “معجزة بيكاسو” أو The Mystery of Picasso، الفيلم المتقشف جدا والتجديدي في أسلوبه وشكله الخالي من الحوار أو التعليق الصوتي أو استعراض الكاميرا أو أي شيء تقريبا سوى بيكاسو وفرشاته والشاشة/اللوحة البيضاء في انتظار اللون الذي سيغير كل شيء! وكان رأي كلوزو ألا حاجة لكل ذلك لأن .. “الرسم لا يفسر بكلمات” الأمر الذي أثار الجدل من بعدها حول شكل الفيلم الوثائقي المعني بالفن التشكيلي.

انقسم النقاد والجمهور بعد عرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي في العام 1956 بين معجب ومنتقد، بالرغم من حصول الفيلم على جائزة لجنة التحكيم ومنافسته على السعفة الذهبية. إلا أن أهمية الفيلم تكمن في كونه وثيقة حية لأسلوب وأصالة بيكاسو الذي يقف عاري الصدر منكبا على اللوحة/الشاشة يرسم ثم يمحو ثم يغيّر ثم يحوّل الموضوع إلى آخر في لعبة إبداعية تستفز وتتحدى قدرة المشاهد على التوقع في استعراض “لموقع القوة” مجددا! وكلما عادت الكاميرا إلى وجهه في المرات القليلة، ترى خيط ابتسامة، لا تعرف إن كانت ساخرة أو نابعة من ثقة مفرطة!

يومها كتب أحد فرسان “الموجة الجديدة” الناقد والمخرج فرنسوا تريفو في كتابه “أفلام حياتي” عن فيلم كلوزو بقوله: “سيتساوى الورق الذي يرسم عليه بيكاسو مع القماش المستطيل الذي نجلس أمامه. فعلا، كل شيء يجري وكأن الفنان يشتغل في قاعة السينما، خلف الشاشة، في الوقت الذي يعرض فيه الفيلم تماما”.

وإعجاب تريفو سيصاحبه اعتراض يقول فيه: “ألم يكن من النباهة تخصيص عشر دقائق من الدقائق التسعين للفيلم لتقديم لوحات قديمة أو حديثة لبيكاسو أكثر إتقانا، أكثر نجاحا، بحيث يتضاد تأليفها مع الرسومات واللوحات التي يبدو أن الرسام أنجزها بسرعة أمام الكاميرا، وفي ظروف عمل شبيهة بظروف رسام كاريكاتوري لموسيقى البهو؟”.

كانت السينما لغة الفن الجديدة في القرن العشرين، وراودت بيكاسو قبل ظهوره في فيلم كلوزو، حيث أراد التجريب واستمالة السينما لصالحه وهو المعروف بانفتاحه على الأفكار والأساليب الجديدة، فصوّر نفسه في محاولة لا يُعرف مصيرها حتى اليوم، وأغلب الظن أنها محفوظة في أرشيف الفنان في أحد منازله العديدة، بحسب معلومة مررتها الناقدة بيغي بارسونز خلال تعليقها على الفيلم. لحظة ضعف باعثها “التقليد” وهو “السارق” العظيم! يا ترى كيف ستبدو “سينما بيكاسو” لو قيض له هذا الاختراق؟ .. سنحتاج إلى حياة موازية لمعرفة ذلك!

بيكاسو وكلوزو في لقطة من فيلم “معجزة بيكاسو”

لكن ستاجيت راي، المخرج البنغالي-الهندي، الذي درس الرسم في صباه، سيعبر ذلك الجسر الواصل بين السينما والفن التشكيلي، عبر لوحات الفنان بيير بونرد الملهمة التي يقول عنها: “أحب في بونرد كيف أن كل شيء يكتسب نفس الأهمية، لا يختلف في ذلك الإنسان عن المقاعد والطاولات إلى سلة الفواكه والمزهريات في مزيج يجمع كافة التفاصيل ليصل إلى تعبير واحد. حاولت أن أصل إلى نفس التأثير في أفلامي. أن أمزج كل العناصر لتكتسب ذات الأهمية مجتمعة، بحيث إذا نزعت أحدهما يختل المعنى”. ستاجيت الذي انجذب إلى السينما المستقلة بعد تعرفه واقترابه من المخرج جان رونوار خلال تصويره فيلم “النهر” في الهند أو The River في العام 1951 ليبدأ رحلة سينمائية طويلة بروائع ستضعه ضمن الأسماء الكبيرة، أسماء مثل أكيرا كوروساوا الذي وصف أفلام ستاجيت بقوله: “ألا تسنح لك فرصة مشاهدة أفلام ستاجيت كأن تعيش الحياة دون مشاهدة القمر والشمس”.

هذه “الوحدة العضوية” التي أحبها ستاجيت في أعمال التشكيلي بونرد وألهمت سينماه سيجدها بشكل مضاعف في أعمال الفوتوغرافي هنري كارتييه-بريسون، المصور الذي عبر جسرا موازيا لجسر ستاجيت، جسرا يصل بين التصوير الفوتوغرافي والفن التشكيلي. وعلى عكس ستاجيت الذي بدأ صباه بالرسم، سينهي كارتييه-بريسون حياته العملية بالرسم!

كثيرة هي الصور التي علقت بخيال ستاجيت، ومنها صورة الفنان هنري ماتيس الجالس بهدوء قريبا من منتصف الصورة، محاطا بأقفاص الحمام في تكوين متناغم وممسكا بحمامة وكأنه يقرأ تفاصيلها. يصف ستاجيت علاقته الفنية بالمصور العبقري بقوله: “تأثير كارتييه-بريسون على أعمالي أساسي منذ البدايات. لديه القدرة على الدمج بشكل مثالي عناصر مختلفة وفي الوقت نفسه تحقيق نوع من البنية. ولكن أكثر ما يشدني إليه هو حسه الإنساني، وقدرته على ترجمة ذلك بتعاطف وتفهم”.

هذه الضفيرة الممتدة من القرن العشرين ستصل إلى المخرج وِسْ أندرسون في القرن الواحد والعشرين في عربة “دارجيلينغ ليميتد” أو The Darjeeling Limited الذي عرض في العام 2007. قبيل ذلك، ازدحم رأس أندرسون بفكرة غير مكتملة عن ثلاثة إخوة يسافرون في قطار؛ لكنه لم يعرف الوجهة أو المكان! في تلك الأثناء، تلقى دعوة من المخرج مارتن سكورسيزي لمشاهدة نسخة مرممة من فيلم “النهر” لرونوار عرضها سكورسيزي في نيويورك، عن الفيلم الذي يحكي قصة حب بين عائلة إنجليزية تعيش في الهند أثناء الاستعمار الإنجليزي. خرج أندرسون من العرض ولمعت الفكرة في ذهنه مباشرة: “الهند! القطار يجب أن يكون في الهند!” .. لم يكن رونوار من أثّر في أندرسون وإنما صاحبنا الأول .. ساتجيت راي! ليس تقليلا من رونوار بالتأكيد، الذي وصفه ابن جلدته تريفو في العام 1967 بقوله: “ليست هذه نتيجة استفتاء، إنما إحساس شخصي: جان رونوار هو أكبر سينمائي في العالم”.

باختياره الهند، أراد أندرسون التواصل مع سينما ساتجيت التي ازداد شغفه بها عبر السنين، وتحديدا كما يقول: “أحببت بشكل خاص فيلمه Teen Kenya أو في تسمية أخرى Three Daughters أو Two Daughters بحسب النسخة المتداولة، لأنه كان في البداية فيلما من جزأين قبل إضافة جزء ثالث (omnibus) .. الأول والثاني ضمن قائمتي المفضلة”. بعدها تجول أندرسون في الهند عبر قطار رفقة رومان كوبولا (نعم، ابن فرانسيس وشقيق صوفيا) الذي سيصبح تقريبا عضوا ثابتا في فريق أندرسون في أحلامه القادمة، وثالثهما جيسون شوارتزمان (ابن عمة رومان) الذي سيلعب دور الشقيق جاك في الفيلم، طاف ثلاثتهما الهند ليكملا الكتابة وتشرّب كافة التفاصيل والتحضير للفيلم من أرض الحدث (كيف يستطيع هؤلاء القوم تحقيق أحلامهم بهذا الشكل؟!!).

إذا، ثلاثة إخوة في دور البطولة، وثلاثة لاستكمال الكتابة والتحضير .. ما سر الرقم ثلاثة؟

هنا يتدخل ساتجيت في أحد حواراته موضحا: “أشعر دائما بحاجة لشخصيات فردية العدد. لو حللت أفلامي بعناية ستجدني على الأغلب استخدم ثلاثة، خمسة، سبعة شخصيات .. ذلك في ظني يزيد الإمكانات الدرامية”.

لكن كيف رأى ساتجيت فيلم شيّخه رونوار؟

يجيب بقوله: “لا أستطيع القول أن فيلم ‘النهر’ كان فيلما عن الهند الحقيقية. الخلفية كانت هندية واستخدمت بشكل رائع، لكن القصة عولجت بمثالية ولم تكن مثيرة للإعجاب بشكل كبير … ولم تقترب أبدا من قول الحقيقة. استمتعت بالفيلم في العموم ولكنه لا يقارن بأفلام [رونوار] الفرنسية”.

لعل ذلك وغيره ما جعل أندرسون يحاول الذهاب أبعد من محاولة رونوار في “مغامرته الهندية”، فاختار طرح وجهة نظره عن المكان من زاوية الزائر، خصوصا إذا عرفنا شيئا عن ولعه بالأماكن الجديدة والإقامة فيها بعين “الغريب”، بشاعرية فلسفية جاءت كالتالي:

“ثمة شيء خاص عندما تعيش في مكان دون أن تتحدث أو تفهم لغته. لست جيدا في تعلم اللغات وبطيء. فرنسيتي سيئة جدا بالرغم من مكوثي فترات طويلة في فرنسا. هذا الأمر يعزلك، ويتيح لك أن تهيم على وجهك، تراقب كل شيء حولك من مسافة. أحب السير في شارع لا أعرفه، حالة تشبه المغامرة، كل يوم اكتشاف جديد، وعندما يصبح ذلك روتينك، تكون حياتك غريبة وممتعة في الوقت نفسه! وأشعر بسعادة عندما أحرز تقدما في معرفتي للغة المكان وتفاصيله، حتى لو كان ذلك ضئيلا … والأكثر متعة أن تعود إليه في زيارة ثانية ليتسنى لك القول ‘هل نذهب لنفس المطعم الذي أكلنا فيه المرة السابقة؟’ ذلك في ظني أكثر متعة، أن تعرف المكان وأن تكون معروفا فيه! وتصبح لديك أماكنك وأصدقائك حتى لو لم تكن تحسن لغته على الوجه الأمثل .. شعور جديد عرفته الآن ولم أجربه في طفولتي أو شبابي.”

هذه اللقطة غير موجودة في الفيلم ولكنها ضمن الصور المنشورة في كتاب The Wes Anderson Collection

في الدقيقة 85 من عمر “دارجيلينغ ليميتد” وقبل ستة دقائق على انتهاء الفيلم، نشاهد صورة ساتجيت داخل إطار ذهبي رفيع فوق مقعد عربة القطار التي ستجمع الإخوة الثلاثة قبيل نهاية الفيلم بعد رحلتهم الجسدية والروحية الشاقة! عرفانا بموقع ساتجيت في مخيلة أندرسون ربما، ولفتة تفصيلية صغيرة لن تثير فضول المتفرج إلا بعد المشاهدة الثانية أو الثالثة لمخرج من فرط اهتمامه بأدق التفاصيل ستحتفظ أفلامه دوما بهوية بصرية تستفز قدرة العقل على استيعاب تفاصيلها عند المشاهدة الأولى! في تجسيد سينمائي أقرب لما وصفه ساتجيت آنفا بـ “القدرة على الدمج بشكل مثالي عناصر مختلفة وفي الوقت نفسه تحقيق نوع من البنية”، محققا تكوينات سينمائية ستهضم تكوينات كارتييه-بريسون وشاعرية رونوار وساتجيت وسحر ألوان ماتيس!

ولكن أين بيكاسو من كل ذلك؟!  

قبل أن تصبح الفنانة فرانسواز جيلوت رفيقةً لبيكاسو، وفي أولى زياراتها لمنزله/محترفه كما تروي في كتابها الذي فجر الغضب “الحياة مع بيكاسو”، وبينما كان سكرتيره سابارتس يتقدمها من غرفة إلى أخرى لتحظى بمقابلة بيكاسو في النهاية، وقعت عيناها بدهشة على لوحة لماتيس بخلفية زهرية اللون أضاءت كل شيء، فقالت بعفوية “أوه! ما أجملها لماتيس”، هنا توقف السكرتير والتفت نحوها قائلا في هدوء: “لا يوجد هنا إلا بيكاسو!”.

اترك تعليقًا

تعليقين

  1. إسهاب جميل وتقاطعات مثيرة للتفكير، لكن – وما أبشع ما يأتِ بعد لكن- يصعب علي قراءة تتبع تاريخي وثائقي دون مراجع كثيرة ودقيقة ومكتوبة بشكل علمي، ربما يوجد اسم كتاب هنا وهناك وهو ما لايكفي. مثل هذا التتبع بحاجة لأناقة التثبت وأنت الباحث النابه. ربما هذا متعمد منك لحفظ حقوق الجدّة البحثية للنشر لاحقاً ككتاب وهو ما أتفهمه. شُكراً على الإطلالة الكريمة لجمهورك الأوسع بعد الغياب الكبير.

    1. أهلا وسهلا سحايب،
      شكرا جزيلا.
      بالنسبة للمراجع فهي موجودة وأنوي إضافتها في قادم الأيام، ثم إنها “ثرثرة” في كل الأحوال.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ستة عشر + 19 =