ثرثرة الاقتباسات: كيف يمضي الممثل سحابة جنونه!

الهروب من "الانفثاء" .. التمثيل على طريقة خيري شلبي ومارلون براندو وخواكين فينيكس.
تكتسب المدن شرعيتها بقدر ما تحرض على الحياة!
وباريس .. فوضى خارج التصنيف. تحتضن الجمال ونقيضه عند كل زاوية. هي لا تحرض فحسب، بل تؤلف أناشيد الثوار!
كان عليَّ أن أقطع أكثر من نصف ساعة مشيا على قدمي بحثا عن تذكرة واحدة. كلما انتظمت في صف جديد، صرخ بائع التذاكر معلنا نفاد مقاعد فيلم “لو جوكيغ”، هكذا سمعتها، بنبرة تحتفي بالخيبة وتفاخر بها!
بحثت عن وجهتي الثالثة ذلك اليوم، وأسرعت الخطى راجيا الفوز بمقعد في سينما أوديون في طرف الدائرة السادسة. وباريس خير من يبدد الوقت الذي تلاحقه الآن. تدعوك للكسل اللذيذ عند كل مقهى، وتستدرجك بفكرة “رمادية” تماما، تشبه لونها الذي وصفته كل الكتب، كما يؤكد سمير عطا الله؛ وأنت تخشى أن تفوتك ولادة خواكين فينيكس “الأوسكارية”! الموهبة التي لا تحتاج لاعتراف رسمي، ومع ذلك، سبقت فرنسا “الأكاديمية” في تكريسها موهبة فينيكس عندما منحته في مهرجان كان السينمائي جائزة أفضل ممثل في نسخة العام 2017 عن دوره في فيلم المخرجة لين رامزي You Were Never Really Here؛ للنجم الكاره لثقافة الجوائز وحياة الضوء! أما عاصمتها اليوم، فخرجت بكافة أجيالها، من جيل “طفرة المواليد” حتى الجيل “زد”، لتملأ كل صالات “جوكر” أو Joker للمخرج تود فيليبس، في تظاهرة سينمائية تليق بمدينة تودع الربيع!
هل فتش فينيكس في خيباته السابقة عن آرثر فليك؟ الشخصية الباحثة عن حلمها وسط اعتلالاتها النفسية، والتي بسبب تعرضها للإهمال الاجتماعي والقهر المعنوي والعنف المادي تتحول إلى روح شريرة لا سقف لأهوالها! أم أنها “صنعة” التجسيد العميق التي بات أحد سحرتها؟
ظل السؤال يطارد فينيكس في كل حواراته تقريبا، عن “الأسلوب” الذي جعله يتماهى مع جنون آرثر فليك، لدرجة تململه من أحد الصحفيين عقب فوزه بجائزة “الغولدن غلوب”، مجسدا حقيقة انزعاجه من طقوس الجوائز التي تضطره لتلقي السؤال ذاته ألف مرة، مكررا إجابته المعتادة عن بحثه في تأثير الأدوية على المرضى النفسيين وأعراضها الجانبية والتي تؤدي أحيانا إلى نقص حاد في الوزن إضافة لدراسته مجموعة من كتب السير الذاتية لبعض القتلة المأجورين. وذلك ما كان .. وأكثر! هل تتعاطف الجوائز مع أدوار الجنون والغرابة؟!
في بداية السبعينيات الميلادية، قال المخرج والناقد البريطاني مايكل وينر بعد تعاونه مع مارلون براندو ما يمكن ترجمته إلى التالي: “قبل براندو، الممثلون يمثلون. بعد براندو، باتوا يمارسون سلوكا ويتصرفون”. هذا الأثر الاستثنائي الذي أحدثه براندو في تاريخ السينما، وآخرين وقتئذ، قالته في وقت مبكر الممثلة ومدربة التمثيل ستيلا أدلر لمريديها، الذين كان براندو من أقربهم وأنجبهم، في قاعدة رئيسية سارت على نهجها أجيال لاحقة من تلامذتها من أشهرهم أنتوني كوين وروبرت دي نيرو وسيدني بولاك وبينيشيو ديل تورو، في ثلاث كلمات: “لا تمثل. تصرف”، أو كما في أصلها الإنجليزي “Don’t act. Behave”. ومن هذه القاعدة الموجزة طفرت أساليب عديدة أخذت التمثيل بعيدا.
صحيح أن مياهاً كثيرة جرت في مدارس التمثيل اليوم، وسال الحبر في “طرقها”، إلا أن جذر كل ذلك ظل تقريبا هناك .. عند المخرج الروسي وأحد منظري التمثيل المسرحي قسطنطين ستانيسلافسكي (1863-1938)
ولكن في العام 1930، وفي رواية أخرى في 1934، التقت أدلر دون تخطيط مسبق بستانيسلافسكي في باريس. كان الخلاف قد دبّ واشتد بينها وبين الممثل والمخرج لي ستراسبرغ على تفسير أفكار ستانيسلافسكي خلال مرحلة تعاونهما في Group Theater في نيويورك. والأخير كان أحد أهم المبشرين بأفكار ستانيسلافسكي، وتحديدا فيما يتعلق “بفهمه” لفكرة “الذاكرة الانفعالية”، قبل أن يقود لاحقا معهد Actors Studio. أما فكرة “الذاكرة الانفعالية” فيمكن اختصارها بأنها مجموعة إعدادات خارجية وداخلية يجريها الممثل عند التحضير لدوره. الجزء الخارجي جسدي ينهض على استرخاء العضلات وطريقة التنفس وتمارين الصوت وغيرها من التقنيات. أما الجزء الداخلي فنفسي، وهو المهم، وينهض على تحفيز الذاكرة واستدعاء أحداث الماضي والغوص في أدق تفاصيلها؛ مثل رائحة العطر السعيد الذي فاح في المكان عندما عانقت حبيبا، أو لون القميص الذي ارتداه صديقك والنسمة العابرة التي لفحت جبينك قبيل لحظات من ذكرى حزينة. وكلما تعمقت في طبقات الذكرى، استيقظت لديك “العاطفة” واستطعت استحضارها متى ما أردت في المشهد/الشخصية، وهو ما عرف لاحقا بـ Method Acting أو Method “ميثود”.
كان اعتراض أدلر أن ستراسبرغ أفرط في اعتماده على فكرة “الذاكرة الانفعالية” المهمة، لكنه نسي الأهم .. النص نفسه! أو “أفكار النص” و”الكلام” الذي وصفته أدلر في كتابها الشهير The Art Of Acting بقولها: “يجب فحص النص، ثمة سر حول الكلام وتحته، والممثل هو الشخص الذي يكتشف ويجسد سر الكلام”. وبمجرد عودتها من باريس، سيتحول اعتراض أدلر إلى انقسام وعداء متكئة على أشهر من ملازمتها لستانيسلافسكي كآخر من درس عليه قبل وفاته. وستشرع مباشرة في تدريس “طريقتها” المطورة معيدة الاعتبار لتقنيات موازية أهملها ستراسبرغ وأيدها فيها المُنَظِّر الكبير مثل “الأداء الجسدي” و “الخيال” إضافة طبعا “لأفكار النص” وغيرها من التقنيات.
ومن صرح الخيال (الشامخ هذه المرة!) سيصعد المبدعون واحدا تلو الآخر للوصول إلى آفاق شخصياتهم الدرامية، في سفر طويل لن يقتصر على الممثلين وحسب، بل سيتجاوزهم إلى الروائيين، ولكن ليس على طريقة ستانيسلافسكي، وإنما على طريقة خيري شلبي! الروائي الذي يحكي عن معاناته في الخروج من شخصياته العجيبة، كما أوضح في حوار إذاعي بقوله: “الذاكرة تتمركز في مناطق معينة وجو معين […] لمدة طويلة قد تصل لأيام وأسابيع وشهور، لشريحة من الحياة والناس […] لدرجة يصل اندماجك فيها إلى التحدث في حياتك اليومية بلغة هذه الشخصيات دون أن تدري”، وعملية الخلاص منها هي: “عملية مُعذبة من ضمن العذاب المصاحب لمتعة الخلق الفني، وعلى رأسها كيفية الخلاص من هذه الشخصيات […] وما هو أشد وأنكى، أن بعض الشخصيات ذات صفات دنيئة جدا ولكي تصورها [فأنت] تحاول أن تستشعر نفسيتها، بخبرتك الحياتية وأن تكون هي”.
ولعنة التقمص التي أصابت شلبي، هي ذاتها التي تصيب كهنة الممثلين اليوم عند استغراقهم في “الشخصية”، وخصوصا الصعبة التي تتطلب تحولا نفسيا واستجابة جسدية، أو كما وصفها الناقد السينمائي ريتشارد برودي بـ “ما بعد الميثود”، في مقاله المنشور في مجلة النيويوركر في فبراير 2014 تحت عنوان لافت: “هل طريقة الميثود تدمر الممثلين؟” أوضح فيه: “اليوم، في عصر ما بعد الميثود، يتوقع من الممثل أن ينتفخ أو يتمدد أو ينكمش أو ينضغط ليلائم الشخصية.”
هذه التراكمات التقنية، سواء عبر الاستعانة بالعواطف الشخصية أو بالتغيير القسري للشكل الخارجي وغيرها من التقنيات والأساليب، لا شك أنها أخذت التمثيل إلى أشكال تعبيرية بعيدة، وحصدت الإعجاب النقدي والجماهيري، ولكنها في موازاة ذلك، تركت آثارا انسحابية، إن صح التعبير، قاسية جدا على الممثل، الذي سيعاني وحده بعد أن ينفض السمار!
وهو الحال الذي انتهى إليه فينيكس بعد تجسيده شخصية المغني جوني كاش في فيلم (Walk The Line (2005 للمخرج جيمس مانغولد، وترشح بسببه لجائزة الأوسكار، كما يقول في كتاب سيرته الذاتية He’s Still Here: The Biography of Joaquin Phoenix موضحا (قبل خمسة عشر عاما من “مصيبة” آرثر فليك) بقوله: “عشت حالة من الحيرة والاكتئاب”، حالة دخل على إثرها إلى مصحة تأهيل نفسي، كاشفا عن الأحاسيس التي انتابته قبلها: “فجأة يسحب البساط منك وتصبح ‘عاريا’! دون أن يمكنك الاعتماد على العالم الذي خلقته. ينتهي عملك وتقول لنفسك: ماذا أفعل؟ كيف أمثل؟ ما هي حياتي؟ من شأن ذلك أن يصيبك بالوحدة”. قصد فينيكس بالبساط، طريقته في الانغماس التي تجعله يهجر حياته العادية لصالح حياة جديدة توافق “الشخصية” التي يؤديها كما يقول: “لا أرتدي ملابسي المعتادة أو أسمع الموسيقى التي تمثلني. لا أتواصل مع أصدقائي أو عائلتي، يبدو ذلك حادا، إلا أن عملية الوصول [إلى الشخصية] هي الصعبة فعلا.”
هذه الصعوبة التي يفرضها الفنان على نفسه، قسرا أو طواعية، هي، ربما، شكل من أشكال ردات الفعل تجاه الالتباس الذي يفرضه حب الشيء وكراهية تبعاته في الوقت ذاته، في حيرة رددها فينيكس في كتابه: “لا أعرف لماذا أحب التمثيل كثيرا أو لماذا أحب تجسيد الأدوار، مع أنني لا أحب ما يجلبه التمثيل من شهرة أو امتيازات.”
وإذا اختار فينيكس التمرد على حياة الفن بنكران الذات والمبالغة في الحط من موهبته الشخصية، فقد ذهب براندو أبعد من ذلك باتجاه احتقار المهنة نفسها! كما نقرأ في مناكفته/حواره مع لورانس جروبيل في Conversation with Brando:
“جروبيل: وماذا عن التمثيل كشكل فني؟
براندو: داخل قلبك، أنت تعلم جيدا أن نجوم السينما ليسوا فنانين …
جروبيل: هل يوجد في مهنتك من تعده فنانا؟
براندو: لا
جروبيل: لا أحد على الإطلاق؟
براندو: لا أحد”
وظل على رأيه حتى آخر حياته، بحسب رواية مؤلف سيرته الذاتية ستيفان كانفر في كتابه Somebody: The Reckless Life and Remarkable Career of Marlon Brando كما أوضح في مستهل فصوله: “في رأيه، التمثيل هو مهنة أخرى مثل السباكة أو الخَبز. الفرق الوحيد هو أنه يقوم بأداء الشخصيات بدل تسليك المواسير أو العجن. ولم يكن تواضعا مزيفا منه؛ كان يعتقد ذلك. لكن اعتقاده لم يكن صحيحا.”
لعل براندو وفينيكس كانا يهربان مما وصفه شلبي في أحد حواراته الإذاعية “المستقلة” على اليوتيوب، بالخشية من “الانفثاء”، أي تفريغ طاقة الابداع لدى الفنان أو الكاتب بسبب المديح أو الذم أو قلة التجارب العملية والبعد عن خوض الحياة كما يجب، حتى لو تطلب الأمر الشقاء مع عمال المناجم في أقاصي الجبال! لأن “الكتابة من الذاكرة لا تعطي أدبا على الإطلاق”، وتنتج بالتالي “فن دايت يخلو من السعر الحراري” بحسب وصفه.
يختم الناقد برودي في مقال آخر في النيويوركر بقصة تمزج ما بين الجدية والجنون، حصلت تفاصيلها أثناء تعاون فينيكس في فيلم Two Lovers في العام 2008 مع المخرج جيمس غراي الذي يقول: قرب نهاية تصوير الفيلم كنت آتي للموقع في السادسة صباحا، وكان موعد فينيكس بعدي بثلاث ساعات، إلا أني وجدته جالسا في أحد الزوايا والدموع تنهمر على وجنتيه، سألته: ما الأمر؟ فقال: إنني أستعد لليوم!
اترك تعليقًا